منذ العام 1803، نحن في دولة الإمارات نعاني من الإمكانيات السعودية الهائلة في تصدير أفكارها الشاذَّة، ولا أودُّ هنا أن أطرح بدايات النفوذ الفكري السعودي في دولة الإمارات منذ بداية القرن التاسع عشر، لأن هذا الحديث مطول جدا، كما أنَّه معروف لدى الجميع أن السعودية تحتل ما يقارب أربعة آلاف كيلو متر مربع من أراضي الإمارات، أي نحو مساحة إمارة دبي (دبي مساحتها 3885 كيلو متر مربَّع)، وتسرق يوميا نحو 650 ألف برميل أو أكثر من النفط من أراضينا المحتلَّة.
سأتناول ما حدث ما بعد العام 1978 حينما دخلت القوات السوفياتية كابول لدعم الانقلاب الشيوعي ضد الفصائل الإسلامية المعروفين بـ "المجاهدون الأفغان"، وتحت الضغط الأمريكي للدول العربية وعلى رأسهم السعودية، تم السماح للشباب العربي، وأولهم السعوديون بالسفر للاشتراك في الحرب ضد السوفييت.
شخصيا، طرحت سؤالاً على الرئيس الأفغاني الأسبق برهان الدين رباني عن مدى حاجة أفغانستان الفعلية لمن يسمون بـ "الأفغان العرب" في مؤتمر صحافي لما زار دولة الإمارات عام 2003، فقال: "كنَّا نفضِّل الحصول على قيمة تذكرة السفر التي أتى بها المقاتل العربي بدلاً من حضوره الشخصي." وأضاف: "نحن لم نكن نعاني على الإطلاق من أيِّ نقص عدديٍّ أو بشريٍّ من المقاتلين الأفغانيِّين، كان ينقصنا الدعم المادِّي والأسلحة".
عملت السعوديَّة في ما بعد بطريقة رسميَّة على تشجيع الشباب السعودي والخليجي لما يسمَّى بـ "الجهاد"، وأصدرت الفتاوي بالكيلو، وربَّما بالأطنان لضرورة محاربة "الكفَّار السوفييت"، أي أنَّ السعوديَّة لم تكن سوى دمية تحرِّكها الولايات المتَّحدة كيفما تشاء، وكانت الحكومة السعوديَّة تحرص على تجييش المشاعر الدينيَّة عبر مختلف الوسائل الإعلاميَّة، وإصدار المنشورات والتسجيلات الدينيَّة.
فكانت السعوديَّة في حالة تعبئة دينيَّة قصوى، غسلت خلالها عقول الشباب والأطفال، ثمَّ انجرَّت الحكومات الخليجيَّة، بكلِّ أسف خلف السعوديَّة، وفتحت هي الأخرى أبوابها لِمن يرغب من شبابها في الذهاب إلى أفغانستان، الأمر الذي لم يكن مُستحسنًا لدى الأفغان أنفسهم، بل إنَّهم كانوا يتساؤلون ويسألون المجاهدين العرب: "إن كانت لديكم رغبة في الجهاد، فلماذا لا تذهبون لتحرير فلسطين بدلاً من السفر آلاف الكيلومترات لتحرير بلاد لا ترتبطون بها سوى التشابه في الدين!" لكن للأسف، الشباب العربي كان مغسول العقل وانخدع بالتجييش الديني الذي طبَّقته السعوديَّة بطريقة في غاية الذكاء بناء على أوامر من أسيادها في الولايات المتَّحدة، حتَّى بلغ عدد المتطوِّعين العرب أو مَن يسمَّون بـ "المجاهدين العرب" أكثر من 40 ألف متطوِّع عربيٍّ في مطلع الثمانينيَّات من القرن الماضي، وكانوا يشكِّلون عبئًا، وليس عونًا على حركة المقاومة الأفغانيَّة.
لم تكن تدرك السعوديَّة أنَّ مَن يريد أن يلعب بالنار عليه أن يعرف جيِّدًا كيف يتعامل معها، وإلاَّ سوف تحرقه! وهذا ما حصل، فقائد "الحمقى العرب" – عفوًا "المجاهدين العرب" – عبد الله عزَّام يكنُّ العداء الدفين لجميع الدول العربيَّة، ووضع خطَّة خبيثة بعيدة المدى، تقوم على إعادة إرسال نصف مَن يسمَّون بـ "المجاهدين" إلى بلدانهم الأصليَّة لرفع راية الجهاد ضدَّ شعوبهم وحكوماتهم الكافرة، وهذا ما حصل، فبعد خروج القوَّات السوفياتيَّة من أفغانستان، اندلعت الحرب الأفغانيَّة الأهليَّة، وعاد أغلبيَّة "الأفغان العرب" إلى بلدانهم لبثِّ سمومهم والجهاد ضدَّ أهلهم وناسهم.
حينها، أدركت السعوديَّة مدى الخطأ الجسيم الذي وقعت فيه، وتسبَّبت في صناعة فئة ضالَّة من البشر، همُّها الأوَّل والأخير إشاعة الفوضى والقتل والتخريب باسم الدين! لقد اتَّخذت السعوديَّة من الدين وسيلة لتحقيق مكاسب سياسيَّة، لكن تلك الخطَّة الأمريكيَّة لم تكن مدروسة الشكل الجيِّد، و"الأفغان العرب" الذين عادوا لم يكونوا سوى مصيبة حلَّت على جميع الدول العربيَّة بسبب السعوديَّة.
في العام 1990، احتلَّ صدَّام حسين دولة الكويت، فكان الاحتلال العراقي وما تبعه من قدوم لجحافل القوات الأمريكيَّة وقطعانها وحيواناتها، وأخرى إلى السعوديَّة بمثابة الفرصة العظيمة للنعَّاق الأجرب الآخر المدعو أسامة بن لادن الذي سرعان ما شكَّل تنظيمًا سرِّيًّا لمحاربة القوَّات الأجنبيَّة الكافرة في السعوديَّة، ثمَّ طُرد وعاش في السودان، ثمَّ طُرد مرَّة أخرى ليعود إلى حديقة الحيوانات في أفغانستان، وينفِّذ إرهابيَّاته من جهة، ومن جهة أخرى، يعاني العرب والمسلمون حتَّى اليوم من سوء المعاملة والتحقير في البلدان بسبب أسامة بن لادن.
بعد حرب 1991، والمصيبة الكبيرة التي تسبَّب بها في المنطقة صدَّام حسين، خرجت علينا السعوديَّة بمرحلة جديدة عُرفت بـ "الصحوة الدينيَّة 1991 – 2001" انفقت خلالها السعوديَّة نحو 16 مليار دولار لترويج الفكر الديني المتشدِّد والنِّعاق الوهَّابي، أي أنَّ السعوديَّة لم تتعلَّم من الدرس الأفغاني وتبعاته، وأصرَّت على الاستمرار في بثِّ سمومها الغريبة التي لا علاقة لها بالدين الإسلامي لا من قريب ولا من بعيد، حتَّى حلَّت مصيبة "غزوة نيويورك" عام 2001.
شخصيًّا لا اعتقد أنَّ السعوديَّة ستتعلَّم من الدرس مرَّة أخرى، وستستمرُّ في الترويج للأفكار المتشدِّدة داخليًّا وخارجيًّا كما قال تعالى: ﴿اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدَّهُمْ فِي طُغِيَانِهِمْ يَعْمَهُوْنَ﴾ نحن في دولة الإمارات، لم نعرف اللباس السعودي القبيح المدعو بالنقاب إلاَّ في عصر الصحوة السعودي! فالتغلغل في وجدان المجتمع السعودي، تبعه تغلغل آخر أشدُّ وأقوى على بقيَّة الدول الخليجيَّة ومن بعدها العربيَّة، وهذا بسبب مليارات الدولارات التي كانت تضخُّها السعوديَّة من أجل ترويج المفاهيم والخزعبلات المتشدِّدة عبر الخُطبِ الدينيَّة والنشرات الدينيَّة المُتشدِّدة والأشرطة الدينيَّة السمعيَّة والبصريَّة والمجلاَّت والإذاعات، هذا بخلاف القنوات التلفزيونيَّة المشبوهة والمستمرَّة في النموِّ في ظلِّ الدعم السعودي السخي، وعلى رأسهم "قناة المجد" الأصوليَّة. فلولا الدولار السعودي، هل كان سيحلُّ علينا هذا التخلُّف القبيح باسم الدين؟ بالطبع لا.
لقد استحدث هذا التيَّار المتشدِّد بدائل لأغلب احتياجات الناس، لدرجة حتَّى أفراح الزفاف استحدثوا لها أناشيد خاصَّة تُعرف بـ "أناشيد الأفراح"، وبات الناس يراجعون الدين من الناحية الشرعيَّة لمزاولة أبسط أمور حياتهم اليوميَّة والمعيشيَّة، مع ترويج الكره وعدم التسامح مع الديانات الأخرى أو حتَّى المذاهب الدينيَّة الإسلاميَّة الأخرى كالمتصوِّفة والشيعة، وأصبح المجتمع السعودي غارق في الأصوليَّة، وبدأ في تصديرها إلى المجتمعات الخليجيَّة الأخرى، فطالت لحى الرجال، وقصرت كناديرهم حتَّى الركب، واتَّشحت النساء بالسواد الأعظم من قمَّة الرأس إلى أخمص القدم، وتمَّ تحريم أبسط الأمور الترفيهيَّة.
فالغناء حرام، والموسيقى حرام، والمسرح والسينما والثقافة حرام، والفنُّ حرام، والأدب حرام، والشعر حرام، والكتاب غير الديني حرام، ونغمات الهاتف النقَّال حرام، والإنترنت حرام على المرأة من دون مُحْرَمٍ، والمُصافحة حرام، والتصفير حرام، والتصفيق حرام، والقهوة حرام، لأنَّها لم تكن معروفة في صدر الإسلام! وكلُّ ما هو فرائحي أو ترفيهي حرام في حرام، (حرَّم الله عيشتكم يا عيال الـ..)، وما شاء الله الفتاوي التكفيريَّة، تُنشر بالكيلو والأطنان في أتفه الأمور والأسباب،ومَن يريد أن يرفِّه عن نفسه، عليه بسماع الأدعية الدينيَّة، وخلاف ذلك، فكلُّ شيء حرام، والعياذ بالله! حتَّى جاءت هجمات 11 سبتمبر 2001.
ومع هول هذه الحادثة، إلاَّ أنَّ السعوديَّة ما تزال مستمرَّة في الترويج لفكرها السلفي المتطرِّف، ولن ترتاح إلا بتحقيق غايتها في تقبيح البشر شكليًّا وفكريًّا.
هل هذا هو مفهوم الدين بالنسبة إلى السعوديَّة؟ إذا كان هذا مفهومكم للدين فلماذا لا تحتفظون به لأنفسكم بدلاً من إغداق الأموال من أجل تخريب المجتمعات المجاورة لكم؟
*سالم حميد - موقع مفكر

http://www.addiyar.com/article/1090116-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D9%85%D8%A7%D8%B1%D8%A7%D8%AA-%D8%AA%D8%AA%D9%83%D9%84%D9%85-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%83%D8%B4%D9%88%D9%81