الجمعة، 4 أغسطس 2017

النخب السعودية وحديث عن المناطقية والعلمانية وشروط الصعود الاجتماعي


سعود عبدالله القحطاني

تحظى دراسات النخب بالأهمية المطلوبة على مستوى دارسي علم الاجتماع السياسي في السعودية، وحسب علمي فإنه لايوجد كتاب مطبوع تناول هذا الموضوع الحيوي بالبحث والدراسة، وذلك على عكس ما هو موجود بالعالم العربي، حيث حظي الموضوع بحقه في الدراسة والبحث والمناقشة.
من هنا، يمكن لنا أن نقدر الجهد الذي بذله الدكتور محمد بن صنيتان في كتابه الأخير (النخب السعودية ..دراسة في التحولات والإخفاقات)، والذي هو في الأساس أطروحة الدكتوراه التي قدمها الباحث للجامعة التونسية.
ينطلق الدكتور في كتابه من فرضية أن المجتمع السعودي تتوزع على خريطته نخب صغرى متعددة، وهي: النخبة الوزارية، النخبة الاستشارية، النخبة المشايخية (المؤسسة الدينية)، النخبة البيروقراطية (المؤسسة الادارية)، نخبة الإنتلجنتسيا (النخبة الفكرية). كما حوى الكتاب عرضاً وشرحاً لما أسماه بـ (النخبة المضادة)، ويقصد فيها النخبة المعارضة.
وكان لاستعانة الباحث بالمنهج الإحصائي في أطروحته الأهمية الكبرى - بتقديري - لإثبات صحة فرضيات البحث، فلغة الأرقام حاسمة للخلاف في الغالب الأعم. وقد حوى الكتاب أرقاماً ونسباً مئوية كثيرة، ودقيقة، كانت نتيجتها أن الباحث خلص إلى أن دائرة النخب تكاد تحتكرها أقاليم معينة، بل إنه "حتى الإقليم نفسه لا يشارك بكامله، بل تتم العملية بشكل انتقائي ومن خلال أسر وعوائل معينة".
وقد أكد الباحث على أن الولاء للإقليم قد تجاوز الولاء للوطن "لدرجة أن واقع تفكير البيروقراطية لم يتجاوز بعد حدود مصالح العائلة والإقليم والحارة"، وأن الحراك الاجتماعي في السعودية هو "حراك منغلق في دوائر ضيقة مناطقية أو عائلية أو مصلحية"، كما أكد على أن التعليم يعد عاملاً هاماً في سبيل الحراك الصاعد، غير أن المحدد الحاسم للوصول إلى دائرة النخبة هو ما اسماه بـ (رأس المال الاجتماعي) "الذي تنسج خيوطه من الانتماءات الجغرافية والتحدرات العائلية".
وقد نبه الباحث إلى أن أهم نتائج الدراسة يشير إلى أن "النخب السعودية لم تفلح في أن تكون ريادية، بل هي عامل يغذي أحياناً الثنائيات القديمة، والنزعة البالية الفانية، القائمة على التفاخر الإقليمي أو المناطقي، والمفاضلة القائمة بين الحضر والبدو..".
ومن اللافت للانتباه أن الباحث في الإحصاءات التي عرضها، اعتمد على الإقليم كأساس للإحصاء، غير أنه أضاف القبائل كمتغير خاص ومستقل في هذه الإحصاءات وكان ذلك بغرض إثبات فرضية "أن البدو يتم إقصاؤهم بشكل مقصود من البيروقراطية الإقليمية"، وقد أقر الباحث بأن تخصيص نسبة منفردة للقبائل إنما يكون بشكل مجازي، لأن القبائل موجودة في كل أقاليم السعودية.
هذا الاستثناء الذي أقره الباحث في أطروحته، لم يرافقه استثناء آخر مهم، وأقصد به نسبة المواطنين الشيعة الداخلين في دائرة النخبة، وإن كان الباحث قد أكد على أن من كان والده من غير المذهب السائد في البلاد، فإن الإقليمية لا تقبله، غير أن هذا التأكيد كان عن طريق الوصف، ولم يلتزم بإثبات ذلك عن طريق المنهج الإحصائي، والذي لو استخدم في هذه الحالة لكان أقوى بالتأكيد على مصداقية هذه الفرضية.
كما أن الباحث لم يعرج في أطروحته على النخبتين العسكرية والمالية، مما يبقي في البال تساؤلاً عن النتيجة الإحصائية التي قد يخرج بها الباحث في دراسته لهاتين النخبتين، وهل في هذه النتيجة تعارض مع الفرضيات السابقة أم لا؟ خصوصاً وأن من المشاهد كثرة أبناء القبائل في المناصب العليا في القطاع العسكري، كما أن نسبة المواطنين الشيعة في دائرة النخب المالية تبدو كبيرة وواضحة للعيان. وفي حال صحة هذه الفرضية (التي أطرحها ولا أتبناها) فإن نتائج الأطروحة ستنقلب رأساً على عقب، من ناحية ظهور عامل جديد ومختلف في الدراسة، مضمونه أن للخلفية الاجتماعية أثراً في اختيار الفرد لدائرة النخبة التي ينافس عليها.
فمثلاً، خلفية أبناء القبائل وقيمهم الاجتماعية، التي تركز على الشجاعة والقوة وقصص المعارك والحروب، هي العامل الذي غذى الميل الواضح فيهم للدخول في القطاع العسكري، بينما بيروقراطية الحجاز القديمة، هي العامل الذي دفع أبناءه للتوغل في الجهاز البيروقراطي السعودي، وهكذا.
وعلى كل حال يبقى الوصف والتحليل في هذه الحالة مختلفاً عليه بين الناس، غير أن الإحصاءات الرقمية ستكون حاسمة للجدال، ولعل الدكتور محمد بن صنيتان سيقوم بهذا البحث الهام بنفسه، وذلك بغرض إكمال مشروعه الكبير والمثير للجدل في آن واحد.
وحقيقة، فإن القارئ للأطروحة - على أهميتها - يخرج ببعض الانطباعات السلبية عنها، من ذلك مثلاً أن الباحث يستنكر في ص 72من الكتاب اختيار بعض الوزراء وكبار الموظفين من عوائل محدودة حضرية، ويمكن لنا أن نقر مشروعية هذا الاستنكار في حال معرفة أنه كان يناقش وضع إحدى المناطق العزيزة على قلوبنا جميعاً، من ناحية كون أنه لم يخرج منها وزير واحد من أبناء القبائ، غير أنه لا مبرر على الإطلاق لأن يقول الباحث: "بل البعض منهم هم أو آباؤهم ممن عاش في الكويت أو البحرين أو الزبير"، هذا الاستطراد لم يكن له - بتقديري - أي داع، وكيف للباحث أن يكون محارباً للعنصرية وهو هنا يعرض بها؟ وعلى كل حال، فما دام الباحث قد عرج لمناقشة هذه النقطة، فإن الجواب عليها يكون بأن هؤلاء الذين عاشوا هم أو آباؤهم في البحرين أو الزبير، كانوا في وقتهم نخباً مميزة، وذلك بسبب تفردهم بمستوى تعليمي وثقافي لم يكن موجوداً في غالبية المواطنين في ذلك الحين.
نفس التساؤل يدور في مخيلتي بخصوص الداعي الذي يدفع الباحث لاستنكار كون المساهمة التاريخية في الكفاح الوحدوي لا تعتبر سبباً للصعود إلى النخبة (ص 148و 157مثلاً)، فمن المفترض أن يقر الباحث على أن رفضنا للإقليمية كشرط للحراك الصاعد لا يعني بأن نزيلها وأن نحل بديلاً عنها الانتماءات العرقية، أو المواقف التاريخية للآباء والأجداد، أو غير ذلك من أمور هي في حقيقتها ليست نتيجة لعمل الإنسان وجهده وكفاءته. إن المطلوب حقاً، هو أن نزيل كل الشروط العنصرية الخفية التي تحول بين المواطن والحراك الصاعد، وأن تكون مسببات الصعود موضوعية ومنصفة للجميع. يبدو لي أن الدكتور بموقفه هذا، كان مبتعداً عن رؤيته الأكاديمية الرصينة، وكان مرتهناً بردة الفعل المعاكسة للفعل، كما ينص القانون الفيزيائي، وكما ألمح الأستاذ محمد رضا نصر الله، في المقال له عن الكتاب نفسه في جريدة الرياض.
كما أن من الظاهر أن الدكتور الكريم لديه لبس في مفهوم العلمانية، فهو ينفي العلمانية عن المثقف السعودي، على اعتبار أن العلمانية تعني الكفر بالله (وهنا نقطة التحفظ)، وهذا خلط بين، فالمصطلحان ليسا بالمترادفين على الإطلاق، وهذه قضية أوضح من أن تشرح، وليس هذا مقام شرحها. كما أن محاولة تصوير المجتمع السعودي بالمجتمع ذي التوجه الديني بشكل تام يناقض الحقيقة، فهناك سعوديون يساريون على سبيل المثال، ومن الغريب أن الباحث أشار بحياء إلى الشيوعيين والبعثيين في السعودية، وكان مصدره في ذلك رواية أطياف الأزقة المهجورة للدكتور تركي الحمد، وكان من الأولى بالباحث أن يرجع في دراسته لهذه التوجهات الفكرية لمراجع ودراسات متخصصة عن الحركات اليسارية في السعودية.
كما لفت انتباهي أن الباحث تعرض لموضوع الديمقراطية بكلام إنشائي، وتوليف سطحي بينها وبين الإسلام، بشكل يذكرني بمحاولات الاشتراكيين لإثبات أن الاشتراكية هي جوهر الإسلام، وترديدهم المستمر لمقولة أبي ذر الغفاري رضي الله عنه (عجبت لمن لا يجد قوت يومه كيف لا يخرج على الناس شاهراً سيفه)، وترديدهم لحديث (الناس شركاء بثلاثة)، وعلى كل حال ففهم الدكتور للديمقراطية ونظرته لتطبيقها فيهما لبس جلي، يتضح هذا من تبيانه لمشكلة تعدد المذاهب، وقوله بأن "كل فعل لأي من الخلفاء الأربعة أقره الجمهور من المسلمين قبل الاختلاف الكبير، ليصير حجة على عموم المسلمين، سنيهم وشيعيهم" (ص103)، كما أن الديمقراطية تقول بتعدد الأديان، وقد بيّن لنا الدكتور ان الإسلام حل هذه المشكلة، فهل له أن يبين ما هو هذا الحل وكيف يتم تطبيقه بدون أن يتعارض هذا مع الديموقراطية؟ وما هو حكم الديمقراطية التي يقول عنها الدكتور في حال تغيير المسلم لدينه؟ وإذا كانت الحدود مقرة بالدستور كما يقول الدكتور في الديمقراطية الإسلامية التي يُنظر بخصوصها، فما هو موقف هذه الديمقراطية في حال رغبة الأكثرية بأن يتم تعديل الدستور وأن يتم إسقاطها؟ وما هو موقف الإسلام من هذا الطلب؟ لو كان الدكتور يتبنى بفهمه للإسلام نظرة الشيخ شلتوت رحمه الله على سبيل المثال، لما طرحت هذه الأسئلة، ولكان الطرح مختلفاً تماماً، غير أن طرحها كان ضرورياً لما كان الدكتور يلزم نفسه بأن "نظرة علماء المملكة العربية السعودية تتميز بصفاء العقيدة الشرعية، المتجردة من بعض معتقدات الفرق والمذاهب الأخرى، وذلك تأثراً بتراث الحركة السلفية والوهابية"، هذا إذا كانت مرجعية الدكتور في فهمه للإسلام بتراث السلفية النجدية، والمذهب الحنبلي، أما إذا كانت هذه المرجعية محصورة في الأمور التعبدية فقط، فليوضح لنا الدكتور مرجعيته في باقي الأمور، كي نعرف بأي ميزان إسلامي نقيس كلامه عن الديمقراطية الإسلامية.
كما لفت انتباهي أن الدكتور أرجع ظهور التيار التكفيري والذي قال عنه بأنه: "يديره حمود العقلا بالريموت كنترول"، والتيار الجامي، إلى اعتقال مشايخ الصحوة في التسعينيات. والحقيقة، أن التيار التكفيري كان موجوداً قبل هذه الاعتقالات بكثير، غير أنه خرج للسطح بشكل أكثر علانية في التسعينيات، نتيجة لالتقاء علي الخضير وناصر الفهد وعبدالعزيز الجربوع في سجن الحاير بعد أحداث بريدة كما يقول الأستاذ منصور النقيدان في دراسته عن خارطة الإسلاميين في السعودية، وحمود العقلا - رحمه الله - لم يكن هو القائد الفعلي لهذا التيار، وإن كان التكفيريون يعتبرونه أباهم الروحي، وذلك لما يحاط به الشيخ من تقدير من قبل الكثيرين في ذلك الحين، مما يعطي أعمالهم نوعاً من الشرعية في نظر الآخرين. كما أن ما يسمى بالجامية لم يكن ظهورها بسبب أحداث بريدة، بل إن ظهورها اللافت، كان من قبل هذه الأحداث، وقد تولى رموزها الرد على الصحويين قبل اعتقالهم.
وتبقى حقيقة، أن الدكتور محمد بن صنيتان، في أطروحته هذه، قد أحدث حراكاً فكرياً في الساحة الثقافية السعودية، ولاشك بأن هذه الأطروحة تستحق من الجميع الوقوف عندها، وكم أتمنى أن تكون بداية لمشروع فكري يتناول الظاهرة النخبوية من جميع جوانبها. لقد علق ابن صنيتان الجرس، والباقي علينا، جميعاً.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق