الخميس، 14 ديسمبر 2017

تفضيل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم على جميع الخلائق


الأدلة على تفضيل النبي صلى الله عليه وسلم على سائر الأنبياء

هل توجد آية في القرآن الكريم تفضل الرسول على باقي الأنبياء ؟.
تم النشر بتاريخ: 2006-08-02




الحمد لله

أولاً :

ننبه الأخ السائل وعموم من يقرأ كلامنا هذا أنه لا يٌشترط أن يرد كل حكم في القرآن الكريم ؛ فالشرع المطهَّر أدلته الكتاب والسنَّة ، وليس الكتاب وحده ، فقد ترد أحكام الله تعالى في السنَّة النبوية ولا ترد في القرآن ، وقد ترد في القرآن دون السنة ، وقد تأتي الأحكام في القرآن الكريم مطلقة عامة مجملة ، وتأتي السنة بالتقييد والتخصيص والتبيين .

وليس في كتاب الله تعالى آية واحدة تدعو للأخذ بما فيه دون ما يأتي في السنَّة ، فعلى من يزعم أنه يأخذ بالقرآن وحده دون السنة أن يستدل على قوله بآية ليصلح منهجه وفهمه ، وأنَّى له ذلك ، بل في كتاب الله تعالى الأمر بأخذ ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم ، والانتهاء عما نهى عنه ، فقال تعالى : ‏( ‏وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا‏ )‏ ‏‏الحشر‏/‏7 ، وقال تعالى : ( وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ ) المائدة/92 ، وقال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ ) الأنفال/20 .

والسنَّة هي " الحكمة " الواردة في كتاب الله تعالى في آيات كثيرة ، منها قوله تعالى ( كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ) البقرة/151 ، وقوله تعالى : ( وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) البقرة/231 .

والقرآن والسنة يصدران من مشكاة واحدة ، وكلاهما وحي الله تعالى ، قال الله سبحانه وتعالى : ( وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى . إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى . عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ) النجم/3-5 .

ثانياً :

تفضيل الأنبياء عليهم السلام بعضهم على بعض : أمر منصوص عليه ، ذكره الله تعالى في كتابه ، والنبي صلى الله عليه وسلم في سنَّته .

قال تعالى : ( تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ) البقرة/253 .

قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله : وقوله تعالى : ( وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ )

أشار في مواضع أخر إلى أن منهم محمداً صلى الله عليه وسلم كقوله : ( عسى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً ) الإسراء/79 ، و قوله : ( وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَآفَّةً لِّلنَّاسِ ) سبأ/28 ، الآية ، وقوله ( إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ جَمِيعاً ) الأعراف/158 ، وقوله ( تَبَارَكَ الذي نَزَّلَ الفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً ) الفرقان/1 .

وأشار في مواضع أخر إلى أن منهم إبراهيم كقوله : ( واتخذ الله إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً ) النساء/125 ، وقوله : ( إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً ) البقرة/124 ، إلى غير ذلك من الآيات .

وأشار في موضع آخر إلى أن منهم داود وهو قوله : ( وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النبيين على بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً ) الإسراء/55 .

وأشار في موضع آخر إلى أن منهم إدريس وهو قوله : ( وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً ) مريم/57 .

وأشار هنا إلى أن منهم عيسى بقوله : ( وَآتَيْنَا عِيسَى ابن مَرْيَمَ البينات ) البقرة/87 ] الآية .

" أضواء البيان " ( 1 / 184 ، 185 ) .

وأما ما ورد في السنة من النهي عن تفضيل الأنبياء بعضهم على بعض ، أو من النهي عن تفضيل نبينا صلى الله عليه وسلم – مثل حديث الصحيحين " لا تُخَيِّرُوا بَيْنَ الأَنْبِيَاءِ " ، وحديث الصحيحين " لاَ تُخَيِّرُوني عَلَى مُوسَى " - : فقد جاء في كلام أهل العلم ما يحل هذا الإشكال ، وقد اختلف العلماء في ذلك على وجوه .

َقَالَ الْخَطَّابِيُّ : ( مَعْنَى هَذَا تَرْك التَّخْيِير بَيْنهمْ عَلَى وَجْه الإِزْرَاء بِبَعْضِهِمْ فَإِنَّهُ رُبَّمَا أَدَّى ذَلِكَ إِلَى فَسَاد الاعْتِقَاد فِيهِمْ وَالإِخْلال بِالْوَاجِبِ مِنْ حُقُوقهمْ وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنْ يُعْتَقَد التَّسْوِيَة بَيْنهمْ فِي دَرَجَاتهمْ فَإِنَّ اللَّه تَعَالَى قَالَ : ( تِلْكَ الرُّسُل فَضَّلْنَا بَعْضهمْ عَلَى بَعْض ) الآيَة اِنْتَهَى

وقال في "عون المعبود" : ( يَعْنِي : لا تُفَضِّلُوا بَعْضهمْ عَلَى بَعْض مِنْ عِنْد أَنْفُسكُمْ ..)

وذكر القرطبي أقوالا أخرى في معنى ذلك ، ثم قال :

( وأحسن من ذلك قول من قال : إن المنع من التفضيل إنما هو من جهة النبوة التي هي خصلة واحدة لا تفاضل فيها ، وإنما التفضيل في زيادة الأحوال والخصوص والكرامات والألطاف والمعجزات المتباينات ، وأما النبوة في نفسها فلا تتفاضل ، وإنما تتفاضل بأمور أخر زائدة عليها ، ولذلك منهم رسل ، وأولو عزم ، ومنهم من اتُخذ خليلاً ، ومنهم من كلم الله ، ورفع بعضهم درجات ، قال الله تعالى : ( وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النبيين على بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً ) الإسراء/55

ثم قال : ( وهذا قول حسن ؛ فإنه جمع بين الآي والأحاديث من غير نسخ )

تفسير القرطبي (3/249)

ثالثاً :

لا خلاف بين العلماء في تفضيل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم على سائر إخوانه الأنبياء عليهم السلام ، وقد جاء ذلك موضَّحاً في الأدلة الشرعية من الكتاب والسنَّة ، ومن ذلك :

1- له صلى الله عليه وسلم المقام المحمود يوم القيامة

قال الله تعالى : ( وَمِنْ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا ) الإسراء/79 .

وهو الشفاعة يوم القيامة للفصل بين الخلائق ، وذلك بعد أن تطول مدة الحشر ، ويصيب الناس ما يصيبهم ، فيذهب الناس للأنبياء ، وكلٌّ يعتذر عن الشفاعة لهم ، حتى تصل لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، فيذهب إلى ربه فيخر ساجداً ، ويطلب الشفاعة للناس فيعطاها ، وسمي بـ " المقام المحمود " لأنّ جميع الخلائق يحمدون محمَّداً صلى الله عليه وسلم على ذلك المقام ؛ لأنّ شفاعته كانت سبباً في رفع معاناتهم من طول المحشر .

عن ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ : ( إِنَّ النَّاسَ يَصِيرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ جُثًا ، كُلُّ أُمَّةٍ تَتْبَعُ نَبِيَّهَا يَقُولُونَ : يَا فُلانُ اشْفَعْ ، يَا فُلانُ اشْفَعْ ، حَتَّى تَنْتَهِيَ الشَّفَاعَةُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَلِكَ يَوْمَ يَبْعَثُهُ اللَّهُ الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ ) رواه البخاري ( 4441 ) .

2 - جوامع الكلم ، والنصر بالرعب ، وحل الغنائم ، وجعل الأرض مسجداً وطهوراً ، وختم النبيين به ، والشفاعة .

قال الله تعالى : ( مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ) الأحزاب/40 .

وقال تعالى : ( تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ) الفرقان/1 .

عَنْ جَابِر بْن عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ مِنْ الأَنْبِيَاءِ قَبْلِي : نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ ، وَجُعِلَتْ لِي الأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا وَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلاةُ فَلْيُصَلِّ ، وَأُحِلَّتْ لِي الْغَنَائِمُ ، وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً ، وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ ) رواه البخاري ( 427 ) ومسلم (421) .

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( فُضِّلْتُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ بِسِتٍّ : أُعْطِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ ، وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ ، وَأُحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِمُ ، وَجُعِلَتْ لِيَ الأَرْضُ طَهُورًا وَمَسْجِدًا ، وَأُرْسِلْتُ إِلَى الْخَلْقِ كَافَّةً ، وَخُتِمَ بِيَ النَّبِيُّونَ ) . رواه مسلم ( 523 ) .

3- أنه صلى الله عليه وسلم أول من يجوز الصراط من الرسل .

روى البخاري ( 773 ) من حديث أبي هريرة الطويل ، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم :

( ... فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يَجُوزُ مِن الرُّسل بِأُمَّتِهِ ) .

4- أنه أول من ينشق عنه القبر ، وأول شافع ، وأول مشفَّع

عَن أبي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَأَوَّلُ مَنْ يَنْشَقُّ عَنْهُ الْقَبْرُ ، وَأَوَّلُ شَافِعٍ ، وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ ) . رواه مسلم ( 2278 ) .

5- غفر الله تعالى له صلى الله عليه وسلم ذنبه كلَّه ما تقدَّم منه وما تأخر

قال الله تعالى : ( إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا . لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ) الفتح/1،2 .

6- النداء بالنبوة والرسالة

قال الله تعالى : ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ) الأحزاب/45 .

وقال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ) المائدة/67 .

وأما إخوانه الأنبياء عليهم السلام فنودوا بأسمائهم المجردة .

7- أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بهدي الأنبياء عليهم السلام .

قال الله تعالى : ( أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ) الأنعام/90 .

قال الشيخ عبد الرحمن السعدي – رحمه الله - :

أي: امش أيها الرسول الكريم خلف هؤلاء الأنبياء الأخيار ، واتبع ملتهم ، وقد امتثل صلى الله عليه وسلم ، فاهتدى بهدي الرسل قبله ، وجمع كل كمال فيهم ، فاجتمعت لديه فضائل وخصائص ، فاق بها جميع العالمين ، وكان سيد المرسلين ، وإمام المتقين ، صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين .

وبهذا الملحظ استدل بهذه من استدل من الصحابة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل الرسل كلهم . " تفسير السعدي " ( ص 263 ) .

وانظر أجوبة الأسئلة ( 2036 ) و ( 7459 ) و ( 10669 ) .

والله أعلم .
=========
محمد صلى الله عليه وسلم هو أفضل الأنبياء على الإطلاق بل هو خير الخلائق أجمعين صلوات الله وسلامه عليه، وقد جاءت في ذلك نصوص لا تحصى كثرة فيما أوحاه الله عز وجل في كتابه و على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم و فيما كتب وروي من أقوال الأئمة المهديين من السلف الصالح رضوان الله عليهم أجمعين.

قال سبحانه وتعالى: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ [البقرة: 253]. والمعنى بقوله: وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ محمد صلى الله عليه وسلم، قاله ابن عباس والشعبي ومجاهد وغيرهم (1) . قال الزمخشري في هذه الجملة من الآية: (أي ومنهم من رفعه على سائر الأنبياء فكان بعد تفاوتهم في الفضل أفضل منهم بدرجات كثيرة) قال: (والظاهر أنه أراد محمداً صلى الله عليه وسلم لأنه هو المفضل عليهم حيث أوتي ما لم يؤته أحد) إلى أن قال: (و في هذا الإبهام من تفخيم فضله وإعلاء قدره ما لا يخفى، لما فيه من الشهادة على أنه العلم الذي لا يشتبه, والمتميز الذي لا يلتبس، ويقال للرجل: من فعل هذا؟ فيقول: أحدكم أو بعضكم، يريد به الذي تعورف واشتهر بنحوه من الأفعال، فيكون أفخم من التصريح به وأنوه بصاحبه) (2) . وقد خص سبحانه في الآية بالذكر من وجوه التفضيل، التفضيل بالآيات فقال: مِنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّهُ, وقال: وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ قال الزمخشري: (وهذا دليل بين أن من زيد تفضيلاً بالآيات منهم فقد فضل على غيره، ولما كان نبينا صلى الله عليه وسلم هو الذي أوتي منها ما لم يؤت أحد في كثرتها وعظمها، كان هو المشهود له بإحراز قصبات الفضل غير مدافع) (3) .

وذهب بعض المفسرين إلى احتمال أن يراد بقوله: وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ محمد وغيره على الإجمال (4) . إلا أنه (يتعين أن يكون المراد من البعض هنا واحداًَ من الرسل معيناً لا طائفة، وتكون الدرجات مراتب من الفضيلة ثابتة لذلك الواحد، لأنه لو كان المراد من البعض جماعة من الرسل مجملاً، ومن الدرجات درجات بينهم، لصار الكلام تكرار مع قوله فضلنا بعضهم على بعض، ولأنه لو أريد بعض فضل على بعض لقال: ورفع بعضهم فوق بعض درجات كما قال في الآية الأخرى: وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ (5) . بعد قوله: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ [الأنعام: 165].

وقال سبحانه: وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا [الإسراء: 55]. ذكر المفسرون أن الآية في محاجة اليهود وأن المعنى: وإنكم لم تنكروا تفضيل النبيين فكيف تنكرون فضل النبي صلى الله عليه وسلم (6) . وقال الزمخشري: (قوله: وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ إشارة إلى تفضيل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقوله: وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا دلالة على وجه تفضيله، وهو أنه خاتم النبيين وأن أمته خير الأمم لأن ذلك مكتوب في زبور داود وقال الله تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ وهم محمد وأمته) (7) .

وقد احتج العلماء – كما يقول الخازن – بقوله تعالى في الأنعام:فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ [الأنعام: 90] لكون النبي صلى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء لأن ما تفرق في الأنبياء من خصال الفضل اجتمعت فيه صلى الله عليه وسلم (8) .

وقال صلى الله عليه وسلم: ((أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس كافة، وأعطيت الشفاعة)) (9) .

وفي رواية من حديث أبي هريرة: ((فضلت على الأنبياء بست)) (10) . فذكر أربعاً من الخمس المتقدمة إلا الشفاعة وزاد خصلتين هما: ((أعطيت جوامع الكلم)) و((ختم بي النبيون)) فتحصل من الروايتين سبع خصال.

ومن حديث حذيفة: ((فضلنا على الناس بثلاث)) (11) . وفي روايات أن الخصائص أربع وروايات أنها اثنتين، ويتحصل من مجموع الروايات جملة من خصائصه صلى الله عليه وسلم التي فضل بها على الأنبياء تزيد كثيراً على ما حدد في كل رواية من عدد، ذكر ابن حجر أنه ينتظم من الروايات سبع عشرة خصلة قال: (ويمكن أن يوجد أكثر من ذلك لمن أمعن التتبع) ونقل عن بعض أهل العلم أن عدد الذي اختص به نبينا صلى الله عليه وسلم عن الأنبياء ستون خصلة (12) .

وأما اختلاف الروايات في تحديد العدد فإنه لا تعارض فيه، يقول ابن حجر في ذلك: (وطريق الجمع أن يقال: لعله اطلع أولاً على بعض ما اختص به ثم اطلع على الباقي، ومن لا يرى مفهوم العدد حجه يدفع هذا الإشكال من أصله) (13) .

وفي أحاديث الشفاعة من بيان فضله صلى الله عليه وسلم على الأنبياء ما هو ظاهر، وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بأنه يرغب إليه فيه الخلق كلهم حتى إبراهيم عليه الصلاة والسلام (14) .

وقال صلى الله عليه وسلم: ((آتي باب الجنة يوم القيامة فأستفتح فيقول الخازن: من أنت؟ فأقول محمد، فيقول: بك أمرت لا أفتح لأحد قبلك)) (15) .

وقال صلى الله عليه وسلم: ((أنا أكثر الأنبياء تبعاً)) (16) وقال: ((لم يصدق نبي من الأنبياء ما صدقت وإن من الأنبياء نبياً ما يصدقه من أمته إلا رجل واحد)) (17) .

ولقد قال صلى الله عليه وسلم: ((أنا سيد ولد آدم يوم القيامة وأول من ينشق عنه القبر، وأول شافع, وأول مشفع)) (18) . وقال صلى الله عليه وسلم: ((أنا سيد ولد آدم يوم القيامة)) (19) .

ومن حديث أبي بكر الصديق في الشفاعة أن عيسى عليه السلام يقول للناس إذا أتوه يستشفعونه: ((انطلقوا إلى سيد ولد آدم)) وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعاء شفاعته: ((رب خلقتني سيد ولد آدم ولا فخر)) (20) .

وقال صلى الله عليه وسلم: ((أنا سيد ولد آدم ولا فخر)) (21) .

وفي معنى ((ولا فخر)) قال ابن الجوزي: (قال ابن الأنباري: المعنى لا أتبجح بهذه الأوصاف وإنما أقولها شكراً لربي ومنبهاً أمتي على إنعامه علي، وقال ابن عقيل: إنما نفي الفخر الذي هو الكبر الواقع في النفس المنهي عنه الذي قيل فيه: إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ [لقمان: 18] ولم ينف فخر التجمل بما ذكره من النعم التي بمثلها يفتخر، ومثله قوله: إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ [القصص: 76] يعني الأشرين، ولم يرد الفرح بنعمة الله تعالى) (22) وقد قال سبحانه: قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ [يونس: 58] فأمره سبحانه بالفرح بفضله.

وظاهر من النصوص أوجه تفضيله صلى الله عليه وسلم على الأنبياء فبعثه إلى الناس كافة، وشريعته أكمل الشرائع، وهو أعظم الناس أمة، وختم الله به النبوات، إلى غير ذلك من معجزاته عليه الصلاة والسلام فهو أكثر الأنبياء آيات، وقد ذكر أن آياته صلى الله عليه وسلم تبلغ ألفاً أو أكثر (23) . وقد نحى بعض أهل العلم إلى المفاضلة بين معجزاته صلى الله عليه وسلم ومعجزات الأنبياء مبيناً في كل معجزة لنبي أن نبينا أوتي خيراً منها (24) .

ولقد أجمعت الأمة على أنه صلى الله عليه وسلم أفضل الخلق (25) . وهو في كلام الأئمة سلفاً وخلفاً كثير، فمن ذلك ما نقل من عقيدة الإمام أحمد إمام أهل السنة أنه (كان يعتقد أن محمداً صلى الله عليه وسلم خير الرسل, وخاتم الأنبياء, والشهيد على الجميع) (26) . وأنه كان يقول: (إن بعض النبيين أفضل من بعض ومحمد صلى الله عليه وسلم أفضلهم) (27) .

وعقد النووي في شرح صحيح الإمام مسلم باباً قال: (باب تفضيل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم على جميع الخلائق) (28) .

وعقد الآجري باباً في كتابه (الشريعة) فقال: (باب ذكر ما فضل الله عز وجل به نبينا صلى الله عليه وسلم في الدنيا من الكرامات على جميع الأنبياء) (29) وقال الحافظ عبد الغني المقدسي في عقيدته: (فصل: ونعتقد أن محمداً المصطفى خير الخلائق وأفضلهم وأكرمهم على الله عز وجل وأعلاهم درجة وأقربهم إلى الله وسيلة) (30) .

ومما ينبغي أن يعلم ما اختص به بعض الأنبياء من الفضائل لا يقتضي أفضليته على صاحب المقام المحمود الذي يغبطه به الأولون والآخرون – صلوات الله وسلامه عليهم-، فإن المفضول يجوز أن يختص بما ليس للفاضل من غير أن يفضله بما اختص به، وقد وقع نحو هذا في نبينا صلى الله عليه وسلم وبعض أتباعه من الصحابة رضوان الله عليهم وهم دون الأنبياء في الفضل، فهذا عمر رضي الله عنه أخبره النبي صلى الله عليه وسلم أن الشيطان ينفر منه قال صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان قط سالكاً فجاً إلا سلك فجاً غير فجك)) (31) ، وعرض له صلى الله عليه وسلم الشيطان في صلاته ولم ينفر منه كما في حديث أبي هريرة (32) قال القرافي في هذا: (وأين عمر من النبي عليه السلام، غير أنه لا يجوز أن يحصل للمفضول ما لا يحصل للفاضل) قال: (ومن ذلك أن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أفضل من الملائكة على الصحيح، وقد حصل للملائكة المواظبة على العبادة مع جميع الأنفاس، يلهم أحدهم التسبيح كما يلهم أحدنا النفس إلى غير ذلك من الفضائل والمزايا التي لم تحصل للبشر، ومع ذلك فالأنبياء أفضل منهم لأن المجموع الحاصل للأنبياء من المزايا والمحاسن أعظم من المجموع الحاصل للملائكة, فمن استقرى هذا وجده كثيراً) إلى أن قال: (فعلى هذه القاعدة تخرجت الإقامة والأذان وأن من خواصهما التي جعل الله تعالى لهما أن الشيطان ينفر منهما دون الصلاة, وأن الصلاة أفضل منهما, ولا تناقض في ذلك بسبب أن المفضول يجوز أن يختص بما ليس للفاضل) (33) . فالحاصل أن نبينا صلى الله عليه وسلم أفضل الخلائق ولا يلتفت إلى غير هذا، ولقد زعم قوم أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن أفضل من إبراهيم ولا من نوح ولا من آدم عليهم السلام لأن الثلاثة آباؤه، وامتنعوا من تفضيل الابن على الأب، وفضلوه على كل نبي لم يكن أبا له (34) . قال البغدادي: (وقياسهم يقتضي أن لا يكون أفضل من إدريس ولا من إسماعيل لأنهم أبواه) (35) ولم ينصوا عليهما، فهم ينطقون عن جهل وسفه، وكذا يقتضي قياسهم أن يكون الأب الكافر المخلد في النار خير من الابن المؤمن المخلد في الجنة كمن نزل فيهم قوله سبحانه: لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ [المجادلة: 22].




==================

===============




المبحث الخامس: توجيه النهي الوارد في التفضيل بين الأنبياء







لابد من اعتقاد التفاضل بين الأنبياء واعتقاد فضل الرسل على الأنبياء وفضل أولي العزم على بقية الرسل وفضل محمد صلى الله عليه وسلم على سائر الرسل والأنبياء صلوات الله وسلامه عليه، لقيام الأدلة الشرعية الصريحة الصحيحة على ذلك، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم نهيه عن التفضيل بين الأنبياء، ونهيه عن تفضيله خاصة على بعض الأنبياء، و في هذا إشكال يظهر لناظره ويزول لمتأمله، وقد خرج العلماء وجوهاً من القول في توجيه ذلك النهي.

أما ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم فقد قال صلى الله عليه وسلم: ((لا تخيروا بين الأنبياء)), و في رواية ((لا تفضلوا بين الأنبياء)) وهو واقع في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس جاء يهودي، فقال: يا أبا القاسم، ضرب وجهي رجل من أصحابك، فقال: أضربته؟ قال: سمعته بالسوق يحلف: والذي اصطفى موسى على البشر، قلت: أي خبيث، على محمد صلى الله عليه وسلم؟ فأخذتني غضبة ضربت وجهه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تخيروا بين الأنبياء..)) الحديث (1) ، وفي رواية: ((لا تخيروني بين الأنبياء)) (2) وفي رواية: ((لا تفضلوا بين أنبياء الله)) (3) , وروى القصة أبو هريرة بنحوه إلا أنه قال: ((لا تخيروني على موسى)) (4) وفي حديث ثان قال صلى الله عليه وسلم: ((لا ينبغي لعبد أن يقول: أنا خير من يونس بن متى)) (5) إلا أن النهي في هذا الحديث يحتمل التأويل على وجهين:

الأول: أن يكون المراد بقوله (أنا): رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه، قال الخطابي: (وهذا أولى الوجهين وأشبههما بمعنى الحديث، فقد جاء من غير هذا الطريق أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((ما ينبغي لنبي أن يقول: أنا خير من يونس بن متى)) (6) فعم الأنبياء كلهم فدخل هو في جملتهم) (7) .

الثاني: أن يكون إنما أراد صلى الله عليه وسلم بقوله: ((لا ينبغي لعبد)): من سواه من الناس، أي لا ينبغي للعبد القائل أن يقول ذلك (8) .

وقد دل على أن هذا هو الأولى في معنى الحديث جملة من ألفاظ الحديث في عدد من رواياته في الصحيحين، ففي رواية: ((لا أقول إن أحداً أفضل من يونس بن متى)) (9) و في رواية: ((من قال: أنا خير من يونس بن متى فقد كذب)) (10) فلا يصح مع قوله: ((فقد كذب)) أن يكون المراد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وفي رواية يقول صلى الله عليه وسلم: ((قال – يعني الله تبارك وتعالى – لا ينبغي لعبد لي (و في لفظ: لعبدي) أن يقول: أنا خير من يونس بن متى)) (11) . فقوله: ((لعبد لي)) يمنع أن يكون المراد رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة.

والحاصل أن في الحديثين ينهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التفضيل بين الأنبياء، وعن تفضيله على موسى ويونس خاصة - على حمل الحديث في يونس على أن النبي صلى الله عليه وسلم هو المراد – وهو صلى الله عليه وسلم أفضل منهما ومن سائر الأنبياء وجميع الخلق قطعاً كما تقدمت الدلائل عليه من الكتاب والسنة والإجماع، و في هذا إشكال ظاهر، وقد وجه العلماء ذلك النهي لإزالة الإشكال في أقوال متعددة، منها:

1- أن النهي ورد قبل أن يعلم النبي صلى الله عليه وسلم أنه سيد ولد آدم وأفضل الأنبياء فلما علم أخبر به، وأن النهي عن التفضيل منسوخ بالقرآن (12) .

إلا أن في هذا القول نظر كما يقول ابن كثير، قال: (لأن هذا من رواية أبي سعيد وأبي هريرة (13) ، وما هاجر أبو هريرة إلا عام حنين متأخراً، فيبعد أنه لم يعلم بهذا إلا بعد هذا والله أعلم) (14) ، وهو كما قال، بل والقول بالنسخ مردود، فإن التفاضل بين الأنبياء ,وفضل أولى العزم من الرسل منهم, وتفضيله صلى الله عليه وسلم على يونس، كل ذلك قد ورد في الآيات المكية في سورة الإسراء, والأحقاف, والقلم, وقصة حديث أبي سعيد وأبي هريرة وقعت في المدينة، وكذلك الحديث الآخر في يونس عليه السلام ورد من رواية أبي هريرة وابن عباس، وابن عباس على سبيل المثال، من صغار الصحابة توفي النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثلاث عشرة سنة وقد ورد أيضاً من رواية عبد الله بن مسعود.

2- أن النهي من باب التواضع وهضم النفس ونفي الكبر والعجب (15) . قال القاضي عياض: (وهذا لا يسلم من الاعتراض) (16) . وهذا التوجيه لا يتناسب مع قوله صلى الله عليه وسلم ((فقد كذب)) في رواية: ((من قال أنا خير من يونس بن متى فقد كذب)) إن حمل الحديث على أن المراد بقوله ((أنا)) رسول الله صلى الله عليه وسلم (17) . فإذا حمل على أن المراد به من سواه صلى الله عليه وسلم، فإن لهذا التوجيه وجهه، خاصة مع قوله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله أوصى إليّ أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغي أحد على أحد)) (18) . ويكون مناسباً أيضاً مع قوله: ((ولا فخر)) في حديث ((أنا سيد ولد آدم ولا فخر)) المتقدم ذكره.

3- أن النهي عن تعيين المفضول، أما تفضيل بعضهم على بعض في الجملة دون تعيين المفضول فهو دلالة النصوص، قاله ابن عطية (19) واستشهد له بقوله صلى الله عليه وسلم: ((أنا سيد ولد آدم)) بإطلاق دون تعيين. ونقل القرطبي قول من قال: (إن النهي اقتضى منع إطلاق اللفظ لا منع اعتقاد ذلك المعنى، فإن الله أخبر بأن الرسل متفاضلون، فلا تقول: نبينا خير من الأنبياء، ولا من فلان النبي، اجتناباً لما نهي عنه، وتأدباً به, وعملاً باعتقاد ما تضمنه القرآن من التفضيل) (20) .

إلا أن في هذا التوجيه نظراً, فالله عز وجل لما أخبر أنه فضل بعض النبيين على بعض في آية الإسراء، وبعض الرسل على بعض في آية البقرة، جعل يعين في الآيتين بعض المتفاضلين ويذكر بعض الوجوه التي فضلوا بها، فعمم ثم خص كما هو ظاهر من لفظ الآيتين وقد تقدم ذكرهما مراراً (21) .

وقد عين الله عز وجل أولي العزم بالذكر وفضلهم على بقية الأنبياء – كما تقدم -، والرسل أفضل من الأنبياء كما دل عليه الدليل واتفق عليه العلماء، فالرسول أفضل من النبي وفي هذا تعيين كما هو ظاهر، أما الإجمال في قوله صلى الله عليه وسلم: ((أنا سيد ولد آدم)) فهو دال على التعيين أيضاً، إذ ثبوت كونه صلى الله عليه وسلم أفضل من الأنبياء جملة دليل كونه أفضل من كل واحد منهم مفصلاً، هذا مع قيام دليل على التعيين فلقد استدل العلماء بقوله تعالى: وَلا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ على أن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من يونس، وهذا شاهد على التعيين، فالمراد بالنهي إذاً غير هذا الوجه.

4- أن المراد بالنهي المنع من التفضيل من جهة النبوة التي هي خصلة واحدة لا تفاضل فيها فهم متساوون فيها, وإنما التفاضل بالخصائص والمحن ونحوها (22) . قال القرطبي: (وهذا قول حسن فإنه جمع بين الآيات والأحاديث من غير نسخ) (23) .

وقال ابن قتيبة في حديث ((لا ينبغي لعبد أن يقول أنا خير من يونس بن متى)): (ويجوز أن يريد لا تفضلوني عليه في العمل فلعله أكثر عملاً مني, ولا في البلوى والامتحان فإنه أعظم مني محنة) (24) .

5- أن المراد بالنهي منع التفضيل من عند أنفسنا لأن مقام التفضيل إنما هو إلى الله (25) ، وروي عن أحمد بن حنبل – رحمه الله – أنه كان يمنع من المفاضلة بين الأنبياء مع قوله بأن بعضهم أفضل من بعض وأن محمداً أفضلهم, لكنه يقول ليس تعيين التفضيل إلى أحد منا (26) .

6- أن المراد بالنهي منع التفضيل بمجرد الآراء والعصبية (27) . وهذا قد يؤول إلى سابقه.

7- أن المراد بالنهي منع التفضيل الذي يؤدي إلى الخصومة والتشاجر (28) . وذلك في مثل الحال التي تحاكم فيها اليهودي مع الأنصاري عند النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي سعيد وأبي هريرة فهذا التوجيه ملائم لسبب ورود الحديث.

8 – أن المراد بالنهي منع التفضيل الذي يؤدي إلى توهم النقص في المفضول, أو الغض منه, والإزراء به (29) .

قال الخطابي في النهي الوارد: (معنى هذا ترك التخيير بينهم على وجه الإزراء ببعضهم، فإنه ربما أدى ذلك إلى فساد الاعتقاد فيهم والإخلال بالواجب من حقوقهم, ويفرض الإيمان بهم، وليس معناه أن يعتقد التسوية بينهم في درجاتهم فإن الله سبحانه قد أخبر أنه قد فاضل بينهم) (30) . وممن قال بهذا التوجيه ابن تيمية رحمه الله وعليه حمل حديث أبي سعيد وأبي هريرة المذكور (31) . وهو لائق بحديث: ((ما ينبغي لعبد أن يقول: أنا خير من يونس بن متى)).

فقد ذكر أهل العلم أنه إنما خص يونس عليه السلام بالذكر لما يخشى على من سمع ما قصه الله علينا من شأنه وما كان من قلة صبره، ونهي نبينا عليهما الصلاة والسلام عن أن يكون مثله، من أن يقع في نفسه تنقيص له، فبالغ صلى الله عليه وسلم في ذكر فضل يونس عليه السلام لسد هذه الذريعة (32) . إلا أن هناك من خرج بهذه العلة للنهي عن حدها فأطلق حكم النهي لمطلق هذه العلة، فجعل النهي مطلقاً لهذه العلة، فقال كما نقل القرطبي: (لا يقال: النبي أفضل من الأنبياء كلهم ولا من فلان ولا خير، كما هو ظاهر النهي، لما يتوهم من النقص في المفضول، لأن النهي اقتضى منع إطلاق اللفظ لا منع اعتقاد ذلك المعنى، فإن الله تعالى أخبر بأن الرسل متفاضلون, فلا تقول: نبينا خير من الأنبياء، ولا من فلان النبي، اجتناباً لما نهي عنه, وتأدباً به وعملاً باعتقاد ما تضمنه القرآن من التفضيل) (33) .

وظاهر هذا الكلام أن المراد من النهي – عند قائله – هو منع تعيين المفضول، لا تفضيل بعض النبيين على بعض في الجملة كما في آخر النقل، ...، ثم جعل العلة من عدم تعيين المفضول هي دفع توهم نقص المفضول كما في أول النقل، وظاهر هذا جعل تعيين المفضول موهماً نقصه، هكذا بهذا الإطلاق وهو خطأ، ويكفي في الجواب عن القول بألا يقال النبي أفضل من الأنبياء أن يورد حديث أبي هريرة في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((فضلت على الأنبياء بست)) الحديث




=============

============

المبحث السادس: الأنبياء أفضل البشر







الأنبياء هم أفضل البشر على الإطلاق، هذه هي دلالة الكتاب والسنة والإجماع والنظر الصحيح.

أما الكتاب:

فقد قال سبحانه وتعالى مبيناً مراتب أوليائه: وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا [النساء: 69].

فالله قد رتب عباده السعداء المنعم عليهم أربع مراتب وبدأ بالأعلى منهم وهم النبيون، وقد ورد في سبب نزول هذه الآية أن بعض الصحابة رضوان الله عليهم قد شق عليهم أن النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة يرفع مع النبيين في الدرجات العلا فتكون منزلتهم دون منزلته فلا يصلون إليه ولا يرونه ولا يجالسونه، فنزلت الآية (1) مبينة أن من أطاع الله ورسوله يكون من نعيمه في الجنة أن يتمكن من مجالسة الأنبياء ورؤيتهم وزيارتهم، فلا يفوته ذلك ولذلك قال سبحانه: وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم وقال: وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا وهذه المعية والرفقة لا تعني تساويهم في الدرجة، بل هم متفاوتون، لكنهم يتزاورون ويتجالسون ويأنسون بقربهم كما كانوا في الدنيا، وهذا بفضل الله لاتباعهم الأنبياء, واقتدائهم بهم.

فالآية نص في تفضيل الأنبياء على البشر فهم أفضل أولياء الله وأرفعهم درجة على الإطلاق.

وذكر سبحانه جملة من الأنبياء في آيات من سورة الأنعام ثم قال في آخرها: وَكُلاًّ فضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ [الأنعام: 86]. قال ابن سعدي في تفسير الآية: (وكلاًّ من هؤلاء الأنبياء والمرسلين فضلنا على العالمين، لأن درجات الفضائل أربع وهي التي ذكرها الله بقوله: وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا فهؤلاء من الدرجة العليا) (2) .

وقال سبحانه وتعالى: إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ [آل عمران: 33]. قال الرازي مبيناً وجه الترابط بين هذه الآية والآيات قبلها: (اعلم أنه تعالى لما بين أن محبته لا تتم إلا بمتابعة الرسل بين علو درجات الرسل وشرف مناصبهم) (3) . وقال في معرض تفسيره للآية: (بين تعالى أنه اصطفى آدم وأولاده من الأنبياء على كل العالمين) (4) .

فالآية في ذكر الأنبياء خاصة وإن قيل في تفسير لفظ (الآل) فيها بأن المقصود به سائر المؤمنين من ذرية إبراهيم, وعمران, أنبياء وغير أنبياء، ويشهد لتخصيصها الأنبياء فقط, وأنهم هم المعنيون بتفضيلهم على العالمين دون غيرهم أمور:

1- قوله سبحانه: إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى والمراد الاصطفاء بالنبوة كما قاله الحسن وغيره (5) . وكذا قد ورد الاصطفاء مراداً به الاصطفاء بالنبوة في عدد من آيات الكتاب عند ذكر النبيين، كقوله سبحانه: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلا وَمِنَ النَّاسِ [الحج: 75]. وقوله في موسى: قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي [الأعراف: 144]. وقوله: وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الأَخْيَارِ.

2- أنه قد أطلق سبحانه وتعالى وصف الاصطفاء وعنى به الرسل خاصة في قوله: قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى [النمل: 59]. والرسل هم المصطفون من عباد الله الذين سلم عليهم في العالمين كما بينه سبحانه في كتابه جملة وتفصيلاً كقوله سبحانه: وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الصافات: 181]. فقوله: وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ كقوله: وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى وقال سبحانه: سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ [الصافات: 79]. وقال: وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الصافات: 108- 109]. وقال: وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الآخِرِينَ سَلامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ [الصافات: 119- 120].

فكما أطلق سبحانه الاصطفاء في آية النمل وهو مقيد في الاصطفاء بالنبوة فكذا في آية آل عمران هذه.

3- أن الله قد ذكر في الآية النبيين آدم ونوحاً ثم ذكر آل إبراهيم وآل عمران وفيه إشارة إلى أن المراد بالآل الأنبياء خاصة من ذرية إبراهيم, وذرية عمران, لا عامة المؤمنين.

4- أن الله قد ذكر آل إبراهيم وآل عمران لأن الأنبياء بعد إبراهيم لم يكونوا إلا من ذريتهما، فجمع ذكرهم في لفظ الآل، وهو سبحانه قد ذكر آل إبراهيم، وآل عمران فقط، ويكون في المؤمنين من ليس من ذريتهم، مما يشهد بأن الآية خاصة بالنبيين.

5- أن قوله سبحانه: عَلَى الْعَالَمِينَ شاهد على أن المراد بالآية الأنبياء من سائر المؤمنين، ذلك أن اصطفاء المؤمنين وتفضيلهم على الكافرين أمر ظاهر ظهوراً يستغنى به عن الذكر، فكيف بتفضيل النبيين واصطفائهم على الكافرين، والنبيون معنيون في الآية بلا خلاف، فأن يكون المراد اصطفاء النبيين وتفضيلهم على سائر المؤمنين أولى، والله أعلم.

هذا، وقد قال بعض المفسرين بأن المراد بآل إبراهيم وآل عمران الأنبياء منهم، وقال بعضهم أن المراد بآل إبراهيم – إبراهيم نفسه (6) .

والحاصل فإن الآية نص في تفضيل الأنبياء على البشر سواء كانت في الأنبياء خاصة وهو الأظهر، أو كانت فيهم و في أتباعهم من المؤمنين عامة، فإنه إذا كان المؤمنون أفضل البشر قد اصطفاهم الله على العالمين فالأنبياء هم الأفضل إطلاقاً بطريق الأولى.

أما السنة: فمن أدلتها على أن الأنبياء أفضل البشر:

قوله صلى الله عليه وسلم لما سئل عن أشد الناس بلاء قال: ((الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل)) (7) . وهذا صريح في أن الأنبياء أمثل البشر.

وقال صلى الله عليه وسلم في أبي بكر وعمر: ((هذان سيدا كهول أهل الجنة من الأولين والآخرين إلا النبيين والمرسلين)) (8) . و في هذا الاستثناء الدليل على أن الأنبياء أفضل الأولين والآخرين.

وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن الله اختار أصحابي على العالمين سوى النبيين والمرسلين)) (9) .

واستدل ابن تيمية رحمه الله على فضل الأنبياء على سائر الناس بحديث: ((ما طلعت الشمس ولا غربت على أحد بعد النبيين والمرسلين أفضل من أبي بكر الصديق)) (10) .

أما الإجماع:

فقد قال ابن تيمية رحمه الله: (وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها وسائر أولياء الله تعالى على أن الأنبياء أفضل من الأولياء الذين ليسوا بأنبياء) (11) .

وقال: (الأنبياء أفضل الخلق باتفاق المسلمين وبعدهم الصديقون, والشهداء, والصالحون) (12) . وذكر رحمه الله أن تفضيل بعض الفرق غير النبي على النبي مخالف لإجماع الأمة (13) .

أما النظر الصحيح:

فإن العقل يقضي بكون الأنبياء خير الخلق وأفضلهم، لأنهم رسل الله, والواسطة بينه وبين خلقه في تبليغهم شرعه ومراده من عباده، وشرف الرسول من شرف المرسل وشرف الرسالة، وهم المصطفون من عباد الله, اصطفاهم الله واختارهم واجتباهم ولا يختار سبحانه من الخلق إلا أكرمهم عليه وأفضلهم عنده وأكملهم لديه، قال ابن القيم رحمه الله: (ويكفي في فضلهم وشرفهم أن الله سبحانه وتعالى اختصهم بوحيه، وجعلهم أمناء على رسالته، وواسطة بينه وبين عباده، وخصهم بأنواع كراماته فمنهم من اتخذه خليلاً، ومنهم من كلمه تكليماً، ومنهم من رفعه مكاناً عليًّا على سائرهم درجات، ولم يجعل لعباده وصولاً إليه إلا من طريقهم، ولا دخولاً إلى جنته إلا خلفهم، ولم يكرم أحداً منهم بكرامة إلا على أيديهم, فهم أقرب الخلق إليه وسيلة, وأرفعهم عنده درجة, وأحبهم إليه وأكرمهم عليه، وبالجملة فخير الدنيا والآخرة إنما ناله العباد على أيديهم, وبهم عرف الله, وبهم عبد وأطيع, وبهم حصلت محابه تعالى في الأرض) (14) .

وأعلى منازل الخلق في تحقيق العبودية لله عز وجل، ولقد حقق الأنبياء عبوديتهم لله فكانوا عباد الله المخلصين الذين بين سبحانه أنهم هم الذين ينجون من السيئات التي يزينها الشيطان، قال الشيطان – فبما حكاه الله -: رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [الحجر: 39- 40]. وقال: فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [ص: 82]. وقد قال الله في حق يوسف عليه السلام: كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ [ يوسف: 24]. فالأنبياء من المخلصين الذين أخلصهم الله واصطفاهم من خلقه فحققوا العبودية له سبحانه ولذلك نعتهم الله بالعبودية التي حققوها فكانوا خير الخلق فيها وبها، قال سبحانه: وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الأَخْيَارِ [ص: 45- 47]. وقال سبحانه: وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص: 17] وقال عن سليمان: نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص: 30] وعن أيوب: إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص: 44] وعن نوح: إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا [ الإسراء: 30]. ونعت سبحانه خير خلقه بالعبودية في المقامات الشريفة فقال في الإسراء: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ [ الإسراء: 1] وقال في الدعوة: وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَّصَدًا [ الجن: 9]. وقال في الوحي: فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى [ النجم: 10]. ولقد قام صلى الله عليه وسلم يصلي لله حتى تورمت قدماه، وتفطرتا، فقيل له: يا رسول الله أتصنع هذا وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال صلى الله عليه وسلم: ((أفلا أكون عبداً شكوراً)) (15) . فالأنبياء عليهم الصلاة والسلام قد حققوا العبودية لله فهم أتم الخلق عبودية لله ولذلك فهم أكمل الخلق وأفضلهم.

وقد اتضح في المبحثين السابقين أمران ظاهرا الدلالة على أفضلية الأنبياء على البشر وهما:

أولاً: أن الأنبياء كانوا خيار أقوامهم قبل نبواتهم فقد عصمهم الله عما يصغر أقدراهم.

ثانياً: أن النبوة اختيار من الله واصطفاء لا تبلغ بكسب ولا بغيره. فجمع الله للأنبياء الفضل من أطرافه ميزهم على خلقه من قبل النبوة, ثم زادهم فضلاً عليهم بالنبوة، فلا يبلغ أحد منزلتهم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق